الباب الخامس الاستقامة في
العادات _
ـ 64 ـ الصدق
ـ 65 ـ الحياء
ـ 66 ـ حفظ
اللسان
ـ 67 ـ حسن
الخلق
ـ 68 ـ اجتناب الغضب
ـ 69 ـ العفو
ـ 70 ـ التواضع
ـ 71 ـ ترك ما لا يعني
ـ 72 ـ غض
البصر
ـ 73 ـ السخاء
ـ 74 ـ رحمة العباد
ـ 75 ـ ترك
الجدل
ـ 64 ـ الصدق
عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
ـ” إنّ الصِدقَ يَهدي إلى البّر وإنّ البرّ يهدي إلى الجَنّةِ ، وإنّ الرجُلَ ليَصدِقُ حتّى يُكتَبَ عِندَ اللّه صِدّيقا ، وإنّ الكَذِبَ يهدي إلى الفُجورِ وإنّ الفُجورَ يَهدي إلى النّار ، وإنّ الرَجُلَ ليَكذِبُ حتى يُكتَبَ عِندَ اللّهِ كَذابا ” ـ
(متفق عليه)
قال أحمد بن خضرويه(1): مَن أراد أن يكون مع الله فليلزم الصدق فإن الله تعالى يقول: ” يا أيُّها الذينَ آمَنوا اتَّقوا اللّهَ وكونوا مَعَ الصادقينَ ” (2). إن أفضل الصدق هو الصدق مع الله في السر والعلن أي أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك . أما الصدق مع العباد فمنه صدق بالقلب وهو صدق العزم على أداء ما يريد ، وصدق باللسان وهو الإخبار بالشيء على حقيقته ، وصدق بالعمل وهو إيقاع العمل كما يجب . والصادق يوافق قصده قوله و فعله.
الصدق مع الناس يجب أن يكون أساس التعامل . ولا يريد الله أن يبنى المجتمع إلاّ على أساس من الصدق ، فإذا كان ذلك ، عاش الناس في طمأنينة وسعادة . أما إن كان الأساس هو الكذب تعب الناس وشقوا في دنياهم قبل أخراهم . ولقد أوصى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالصدق حتى أنه نهى عن نقل كلام يعرف الإنسان أنه كذب دون أن ينبه على ذلك وكفى بالمرء كذبا أن ينقل كل ما سمع . وقد مر بنا قوله أن المؤمن يجبل على كل خلق ليس الكذب والخيانة(3). قال بعض الصالحين: عليك بالصدق حيث تخاف أن يضرك فإنه ينفعك ، ودع الكذب حيث ترى أنه ينفعك فإنه يضرك.
شاع بين الناس أن هناك كذبا أبيضا وكذبا أسود. الكذب بصورة عامة حرام فهو أسود كله. إلاّ أن هناك إستثناءات ضرورية في حالات خاصة ، وهي حالات إختيار أخفّ الضررين . فإذا كان الإثم الذي يقع نتيجة الإخبار بالحقيقة أكبر من الإثم عند عدم ذكرها ، كحالات الصلح بين المتخاصمين الذين يذكر أحدهما الآخر بسوء ، فمن نقل أفضل ما سمع من أحدهما عن الآخر لم يكن كاذبا . كما أن الإخبار بالمعاريض (أي التلميح أوالتمويه) وسيلة لتحاشي الكذب . ورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه حينما سأله أعرابي قبيل معركة بدر أنتم ممن؟ فقال: ” نحنُ من ماء ” ، فانصرف الأعرابي وهو يقول من أي ماء؟ أمن ماء العراق؟ بينما كان جواب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مشتقا من قوله تعالى: ” واللّهُ خَلَقَ كُلّ دابَّة مِن ماء ” (4) فلم يكذب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولم يستفد الأعرابي من جوابه شيئا ، وهكذا على المؤمن أن يتخلص من المواقف الصعبة دون أن يخالف الشريعة بالكذب . وكثيرا ما تكون النجاة في الصدق. كان الشيخ محمد الرضواني ـ(5) رحمه الله في مسجده فدخل عليه رجل هاربا ممن يريد أن يبطش به ظلما ، وطلب من الشيخ إجارته ، فأشار إليه أن يلف نفسه بحصير في المسجد. فلما دخل من يطلبه وسأل عنه الشيخ ، تذكر أن النجاة في الصدق وهو موقن بذلك ، فقال له هناك مشيرا إلى الحصير ، فظن الرجل أنه يهزأ به ، فانتهره وخرج ، ونجا الرجل الهارب
إن أحد أصناف البلاء الذي إبتلي به المسلمون اليوم هو الكذب . ففي الوقت الذي ترى فيه أمما أخرى تستند اليوم في معاملاتها بين أفرادها على الصدق ، وتربي أطفالها عليه من نعومة أظفارهم ، بينما المسلمون اليوم ، الذين أمرهم دينهم بالصدق ، ترى الكذب شائعا بينهم بكثرة ، حتى إنك لتجد بينهم اليوم من يفخر به ، بينما كان عرب الجاهلية يستحيون أن يعرفوا بالكذب . فحينما أدخل أبو سفيان بن حرب مع نفر من قومه وكان مشركا عقب صلح الحديبية على هرقل في أرض الشام ، وقد وصله كتاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حينما دعاه إلى الإسلام ، فسأل هرقل أبا سفيان جملة أسئلة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فلم يكذب عليه ، وكانت إجاباته كلها مدحا لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خشية أن يعرف أمام قومه بالكذب ، فهو خلق ذميم كانت تأبى أنفسهم أن يعرفوا به.
ـ 65 ـ الحياء
عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مر برجل من الأنصار يعظ أخاه في الحياء فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:ـ
” دَعهُ فإنّ الحياءَ مِن الإيمانِ ”
(متفق عليه)
وفي رواية لمسلم: ” الحياءُ كلُّهُ خير ” . الأنصاري كان يعظ أخاه أن يترك الخجل لأنه كان يتصور أن الخَجل يفقد الإنسان كثيرا من الحقوق كما يتصور البعض اليوم . وهنا ينهاه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن هذا التصور للحياء.
فالحياء خلق رفيع وهو عند المرأة أجمل . الحياء يمنع الإنسان عن الإتصاف بالأخلاق الوضيعة وعن السمعة السيئة وعن الأقوال الفاحشة وعن كل ما لا يرضاه الطبع السوي. أما إذا فقد المرء الحياء فإنه يفعل ما يشاء من معاصٍ أو آثام أو سوء خلق ولا يخشى في ذلك لوم قريب أو بعيد ، وقديما قيل إذا لم تستحي باصنع ما شئت..
وأعلى درجات الحياء هو الحياء من الله أن يجده ربه حيث ينهاه. قال صلى الله عليه وآله وسلم: ” إستَحيوا مِن اللّهِ حَقّ الحياء ” ، قالوا يا رسول الله كلنا نستحيي من الله قال: ” ليسَ كذلك الحياءُ من اللّهِ ، ولكن الحياء من اللّه أن لا تَنسوا المَقابِرَ والبَلى ، وأن لا تَنسوا الجوفَ وما وعى ، وأن لا تَنسوا الرأسَ وما احتوى ، ومَن يَشتَهي كَرامَةَ الآخِرَةِ يَدَع زينة الحياة الدُنيا ” (6) ، و ” الّذينَ يؤتون ما آتوا وقُلوبُهُم وجِلَة أنَّهُم إلى رَبِّهِم راجِعونَ ” (7). وقد كان عباد الله الصالحون من هذه الأمة ينصرفون من الصلاة على إستحياء من الله تعالى حيث هم موقنون بتقصيرهم ، وبذلك كانوا من الذين: ” يؤتون ما أتوا وقُلوبُهُم وجِلَة أنَّهُم إلى رَبِّهم راجِعونَ ” (8).ـ
الحياء الذي يمنع تعلم العلم والدين مذموم . وليس المقصود هنا نزع الحياء فيهما بل التغلب على الحياء عندما يمنع من التعلم للعلوم الدنيوية أو الأخروية . وقد كان نساء الأنصار لا يمنعهن الحياء أن يسألن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن أمور دينهن وقد نلن المدح منه على ذلك.
ـ 66 ـ حفظ اللسان
عن معاذ بن جبل قال قلت يا رسول الله أنؤاخَذُ بما نقول؟قال صلى الله عليه وآله وسلم:
” ثكِلَتكَ أمُّكَ يا مُعاذ وهَل يَكُبّ الناسَ في النّار على مَناخِرِهِم إلاّ حَصائِدُ ألسِنَتِهِم” .
(أخرجه الترمذي وصححه وإبن ماجه والحاكم)
قال عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه: من عدّ كلامه من عمله قلّ كلامه. وقال عبد الله ابن مسعود رضي الله عنه: ما من شيء أحق بطول السجن من اللسان . وعلى المرء أن يتذكر على الدوام قوله تعالى: ” ما يَلفِظُ مِن قول إلاّ لَديهِ رَقيب عَتيد ” (9). وقال بعض الحكماء إنما خلق للإنسان لسان واحد وعينان واذنان ليسمع ويبصر أكثر مما يقول ، ثم أنه حبس بأربعة أبواب الشفتان مصراعان والأسنان مصراعان . وما يحصل الحكماء على الحكمة إلاّ بالتفكر والصمت.
للسان آفات لاتعادلها آفات عضو آخر في البدن . فمن آفاته الكذب ، والوعد الكاذب ، والغيبة ، والنميمة ، والمزاح ، والمراء ، والجدل ، والفحش في الكلام ، والكلام فيما لايعني وفضول الكلام ، والخصومة ، واللعن ، والسخرية والإستهزاء ، والحلف الكاذب ، والخوض في الباطل ، والتقعر ، والتشدق ، والتكلف في الكلام ، والغناء ، وقول الشعر الماجن ، وإفشاء السر ، والمدح أمام الممدوح ، والذم بما لا يستحق... ومثل هذه الآفات يستحق كل واحد منها الحذر من الوقوع في مساوئه ، وكلها من آفات اللسان . لذلك على المؤمن أن يقول خيرا أو ليصمت(10).ـ
وعلى المؤمن أن يراقب كلامه أكثر من كلام الناس ، فلا يتكلم إلاّ بعد رَوِيَّة وتفكر ، فإذا ما نطق بالكلمة ، خرجت الكلمة من سيطرته وأصبحت ملك من سمعها . أما قبل ذلك فهي ملكه إن شاء تفوه بها وإن شاء كتمها . وعلى المرء أن لا يستهين بالكلمة ، فرب كلمة أحدثت فتنة ، ورب فتنة تسببت في إزهاق أرواح أو في خصام وشقاق. ألا تستحق مثل تلك الكلمة أن يهوي بها صاحبها في جهنم ، كما قال عليه الصلاة والسلام: ” إنّ الرجُلَ ليَتَكَلّم بالكَلِمَةِ من سَخَطِ اللّهِ ما يَظُنّ أن تَبلُغَ ما بَلَغَت فيَكتُبُ اللّهُ عليه بها سَخَطُهُ إلى يوم القيامَة ” (11). وهكذا يكون اللسان واحدا من أكثر ما يدخل الناس النار كما سيأتي في الحديث الآتي.
ـ 67 ـ حسن الخلق
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سُئل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن أكثر ما يدخل الناس الجنة ، قال: ” تَقوى اللّه وحُسنُ الخُلُقِ ” ، وسُئِل عن أكثر ما يدخل الناس النار ، فقال: ” الفَمُ والفَرجُ ”
(رواه الترمذي وقال حسن صحيح)
سبق أن مر بنا في الحديث (46) قوله صلى الله عليه وآله وسلم ” أن البر حسن الخلق” . مدح الله تعالى رسوله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: ” وإنَّكَ لَعَلى خُلُق عَظيم ” (12). وقد بلغ من حسن خلقه أن كان يقابل عداء قومه له بدعائه: ” اللّهُمَ اهد قومي فإنّهُم لا يَعلمون ” (13) ، وكان أنس بن مالك رضي الله عنه يقول: خَدمتُ النبي عشر سنين فما قال لشيء فعلته لِمَ فعلته ولا لشيء تركته لم تركته(14). وكان من دعائه صلى الله عليه وآله وسلم: ” اللّهُم إهدِني لأحسَنِ الأخلاقِ ، لا يَهدي لأحسنِها إلاّ أنت ، واصرف عني سيّئَها لا يصرف سيّئَها إلاّ أنت ” (15).ـ
روي أن أمير المؤمنين علي رضي الله عنه دعا غلاما له فلم يجبه فدعاه ثانيا وثالثا فلم يجبه ، فقام إليه فرآه مضطجعا فقال أما تسمع يا غلام ، فقال نعم ، قال فما حملك على ترك جوابي؟ فقال أمنت عقوبتك فتكاسلت ، فقال إمض فأنت حر لوجه الله تعالى . وكان عبد الله بن عمر رضي الله عنهما إذا رأى واحدا من عبيده يحسن الصلاة يعتقه ، فعرفوا ذلك من خلقه فكانوا يحسنون الصلاة مراآة ، وكان يعتقهم ، فقيل له في ذلك فقال من خَدعنا في الله انخدعنا له. وكان الفضيل بن عياض يقول: لئن يصحبني فاجر حسن الخلق أحب إليّ من أن يصحبني عابد سيئ الخلق. وعرّف الحرث المحاسبي حسن الخلق بقوله: إحتمال الأذى ، وقلة الغضب ، وبسط الوجه ، وطيب الكلام.
المؤمن يكون حسن الخلق ، يألف الناس ويألفونه ، ويحسن معاملتهم ويبسط وجهه لهم ، وإذا غضب تذكر ففاء. وإذا لم تكن أخلاقه كذلك جاهد نفسه لكي يحسِّن خلقه ويدعو الله أن يعينه على ذلك ، ومجاهدة النفس في ذلك من أقرب القربات إلى الله تعالى.
والحديث من جوامع الكلم فهو يحث على التقوى كذلك ويحذر من شهوات الطعام والكلام الذان هما مما ينتج من الفم ومن شهوة الفرج
ـ 68 ـ إجتناب الغضب
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال:
” ليسَ الشَديد بالصرعةِ إنَّما الشَديدُ مَن يَملِكُ نَفسَهُ عند الغَضَبِ ” .
(متفق عليه)
مدح الله المؤمنين بقوله: ” والكاظِمينَ الغيظَ والعافينَ عَنِ الناسِ ” (16) وكذلك : ”وإذا ما غَضِبوا هُم يَغفِرونَ ” (17)ـ فالغضب محتمل على ابن آدم ولكن ما مطلوب هو عدم فقدان العقل والسيطرة على النفس أثناء الغضب بحيث لا يرتكب أثناء غضبه ما لا يحبه الله من قول أو فعل.
كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا يغضب لنفسه ، وربما تطاول عليه بعض الجهلة أمام أصحابه فلا يغضب ، وينهى أصحابه أن يؤذوا مثل هؤلاء الجهلة ويأمرهم بالترفق بهم . أما إذا ما ارتكبت حرمة من حرمات الله تعالى فكان يغضب ، وربما يشتد غضبه فيأمر من ينادي بالناس لكي يبين لهم ما أشكل عليهم . وكان صلى الله عليه وآله وسلم ينصح لمعالجة الغضب بالوضوء فقد ورد عنه صلى الله عليه وآله وسلم: ” إذا غضب أحَدكُم فليتوضَأ بالماءِ فإنَّما الغَضَبُ مِنَ النَّارِ ” ، أو أن يلصق خده بالتراب(18) ، وذلك تذكرة للإنسان بأن نهايته هي الموت وأن لا شيء من أمر الدنيا يستحق أن يغضب عليه لأن نهايته الفناء.
إن نهي المؤمن نفسه عن هواها عند ثوران غضبه وكبت تلك الأهواء هو من مجاهدة النفس ، وفي ذلك يمدح رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من يستطيع ذلك ويصفه بالشدة ، وكلما كان كبت تلك الأهواء أسرع كلما كان ذلك أكثر ثوابا وأعظم أجرا فإن سرعة الفيء بعد الغضب دليل ضبط النفس ومخالفة هواها.
قيل لعبد الله بن المبارك: أجمِل لنا حسن الخلق في كلمة قال: أترك الغضب . وقال عبدالله بن عمر ما جرع رجل جرعة أعظم أجرا من جرعة غيظ إبتغاء وجه الله.
ـ 69 ـ العفو
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ” ما نَقَصَت صَدَقَة مِن مال ، وما زادَ اللّهُ عبدا بِعَفو إلاّ عِزّا ، وما تواضَعَ أحَد للّهِ الاّرَفَعَهُ ” .ـ
(رواه مسلم والترمذي)
قال الله تعالى : ” خُذ العفوَ وأمُر بالعُرفِ وأعرِض عَنِ الجاهلينَ ” (19) ، وقال: ” وأن تَعفوا أقرَبُ للتَقوى ” (20)،وقال: ” فَمَن عَفا وأصلَحَ فأجرُهُ على اللّهِ ” (21).ـ
عن مبارك بن فضالة قال وفد سوار بن عبد الله في وفد من أهل البصرة إلى أبي جعفر المنصور ، قال :كنت عنده إذ أتي برجل فأمر بقتله فقلت يقتل رجل من المسلمين وأنا حاضر ، فقلت يا أمير المؤمنين ألا أحدثك حديثا سمعته من الحسن قال وما هو قلت سمعته يقول: إذا كان يوم القيامة جمع الله عز وجل الناس في صعيد واحد حيث يسمعهم الداعي وينفذهم البصر فيقوم مناد فينادي من له عند الله يد فليقم فلا يقوم إلاّ من عفا فقال: والله لقد سَمعتَه من الحسن؟ فقلت والله لقد سمعتُه منه فقال خلينا عنه.
قال بعضهم: ليس الحليم من ظُلم فحلم حتى إذا قدر إنتقم ، ولكن الحليم من ظُلم فحلم حتى إذا قدر عفى.. وقال عمر رضي الله عنه: تعلّموا العلم وتعلموا للعلم السكينة والحلم . وقال علي رضي الله عنه: ليس الخير أن يكثر مالك وولدك ولكن الخير أن يكثر علمك ويعظم حلمك ، وأن لا تباهي الناس بعبادة الله ، وإن أحسنت حمدت الله وإن أسأت إستغفرت الله تعالى.
إن ما ورد في هذا الحديث حث على عدم الحقد على الناس نتيجة أذاهم ومعاملتهم بالعفو ، وليس ذلك ظاهرا فقط فيما بينه وبينهم ، بل وباطنا أيضا فيما بينه وبين الله تعالى ، فهو يعفو عنهم ويدعو الله أن يهديهم ، كما حكى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن نبي يدعو: ” اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون ” (22) ، بعد أن ضربوه فأدموه ، لذلك فهو يعفو عن أذاهم لشخصه. أما من أصر على محاربة الله ورسوله ودينه فلا عفو معه لأن حق الله تعالى في إقامة حدوده ليس بيد الناس إن شاؤوا أخذوا به وإن شاؤوا عفو عنه ، بل ذلك لله وحده وهو قد فرض حدوده لإقامة الحياة . أما شؤونهم الخاصة فقد حثهم الله تعالى على العفو عنها ، في هذا الحديث.
لما حلف أبو بكر رضي الله عنه أن لا ينفق على مَسْطَح (وكان أحد أقاربه) حيث كان من بين الذين تحدثوا بحديث الإفك عن عائشة رضي الله عنها ، وكان قبل ذلك ينفق عليه ، نزل قوله تعالى: ” ولا يأتَلِ أولوا الفَضل منكُم والسَعَةِ أن يؤتوا أولي القُربى والمساكينَ والمُهاجرينَ في سَبيل اللّهِ وليَعفو وليصفَحوا ، ألا تُحِبّونَ أن يَغفِرَ اللّهُ لَكُم ” (23) ، فقال أبوبكر: نعم نحب ذلك وعاد إلى الإنفاق عليه(24). وهكذا فالمؤمن لا يحقد على أحد ، بل يعفو ويصفح ، لكنه كَيِّسٌ فطن ولا يلدغ من جحر مرتين.
في عام الحديبية ، حاول ثمانون رجلا من التنعيم صلاة الصبح ليقتلوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بغتة ، فأمسكهم أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم وجاؤوا بهم إليه ، فأعتقهم وأطلقهم(25) ، كما ورد عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه عفى عن الشاعر أبي عزة الجمحي بعد أسره في معركة بدر بعد تعهده أن لا يحارب المسلمين ، ولا يهجو رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولا المسلمين ، لكنه أخلف وعده بعد أن خضع لضغوط المشركين واشترك في غزوة أحد ، فأسره المسلمون وعند ذلك أمر الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بقتله. فذلك العفو هو جزء من وسائل الدعوة في تأليف القلوب وتحبيب الإيمان إلى النفوس.
وتطاول رجل على الإمام أبي حنيفة رضي الله عنه قائلا: يا مبتدع يا زنديق ، فقال أبو حنيفة: غفر الله لك ، ألله يعلم مني خلاف ما قلتَ ، وإني ما عدلت به أحدا منذ عرفته ولا أرجو إلاّ غفرانه ولا أخاف إلاّ عقابه ، ثم بكى عند ذكر العقاب وسقط سريعا ، فلما أفاق قال له الرجل إجعلني في حل ، فقال كل من قال فيّ شيئا من الجهل فهو في حِلٍّ (حيث أن ذلك من حقوق نفسه فعفى عنه ) ، ومن قال فيّ شيئا مما ليس فيّ من أهل العلم فهو في حرج ، فإن غيبة العلماء تُبقِي شيئا بعدهم ( أي لا ينتهي أثرها بعد الكلام - لاحظ أن هذا من حقوق الله تعالى وليس من حقوق نفسه فلم يعف عنه) . وهكذا فإن العلماء الأتقياء يسيرون على هدي رسول الله صلى الله عليه في العفو عن حقوق أنفسهم . أما حقوق الله المتمثلة بغيبة وذم العلماء الأتقياء عن علم بذلك فهي موكلة لله تعالى.
ـ 70 ـ التواضع
عن عياض بن حمار رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
” إن اللّهَ أوحى إليّ أن تواضَعوا حَتى لا يَفخَرَ أحَد على أحد ، ولا يبغي أحد على أحد ”
(رواه مسلم)
التواضع من سيد الأخلاق والتكبر من سيئها . حكي عن الحسن البصري أنه ذكر قوله تعالى: ” وَعِبادُ الرَحمَنِ الّذينَ يَمشونَ عَلى الأرض هونا ” (26) ، فقال:المؤمنون قوم ذلل ، ذلت لله الأسماع والأبصار والجوارح حتى يحسبهم الجاهل مرضى ، والله ما بالقوم من مرض وإنهم لأصحاء القلوب ولكن دخلهم من الخوف ما لم يدخل غيرهم ومنعهم من الدنيا علمهم بالآخرة . وقال بعض العلماء(27): من أعطي مالا أو جمالا أو ثيابا أو علما ثم لم يتواضع فيه كان عليه وبالا يوم القيامة . وقال موسى بن القاسم كانت عندنا زلزلة وريح حمراء فذهبت الى محمد بن مقاتل(28)،فقلت يا أبا عبد الله أنت إمامنا فادع الله عز وجل لنا ، فبكى ثم قال ليتني لم أكن سبب هلاككم . قال فرأيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم في النوم فقال إن الله عز وجل رفع عنكم بدعاء محمد بن مقاتل . وهذا دأب الصالحين لا يرون لعبادة أنفسهم وتقواها أية قيمة تجعلهم يعجبون بأنفسهم ولا يرون أن لهم فضلا على غيرهم . هذا في العبادة والتقوى فما بالك بالمال والجاه أو متاع الحياة الدنيا؟
إن التكبر أحد الأسباب الرئيسة للكفر. قال تعالى: ” سأصرِفُ عَن آياتيَ الّذينَ يتَكَبَّرون في الأرضِ بِغيرِ الحَقّ ” (29). ولم يكن سبب عناد فرعون هذه الأمة ، أبوجهل(30) إلا تكبره ، فحينما سئل عن سبب عدم إسلامه مع معرفته أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ليس بكاذب ، قال: تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشرف ، أطعموا فأطعمنا ، وحملوا فحملنا ، وأعطوا فأعطينا ، حتى إذا تجاثينا الركب وكنا كفرسي رهان ، قالوا منا نبي يأتيه الوحي من السماء! فمتى ندرك هذا؟ والله لا نسمع له أبدا ولا نصدقه. فالتكبر هذا بسبب الجاه والشرف وعزة القوم والعشيرة أو في حالات أخرى بسببب المال أو المنصب أو العلم أوالذكاء والمقدرة أو كثرة الأتباع ، إنما هو من تسويل الشيطان.
إن
العلاج الناجع للتكبر هو بمخالفة
سببه عمليا ، فإذا وجد المرء داعيا
للتكبر بسبب المال ، عليه أن يعالجه
بمخالطة الفقراء والتواضع لهم
ومنحهم الصدقات دون منّ أو شعور بأن
له فضلا عليهم . وإن كان تكبره بسبب
العلم والذكاء والعقل فعليه التواضع
لمن يمكن أن يتعلم منه شيئا جديدا .
ركب زيد بن ثابت فدنا منه ابن عباس
ليأخذ بركاب فرسه ، فقال مهٍ! يا بن عم
رسول الله فقال هكذا أمرنا أن نفعل
بعلمائنا . فأخذ زيد بن ثابت يد ابن
عباس فقبَّلها وقال هكذا أُمرنا أن
نفعل بأهل بيت رسول الله صلى الله
عليه وآله وسلم . وقال عروة بن الزبير
رأيت عمر بن الخطاب رضي الله عنه على
عاتقه قربة ماء ، فقلت يا أمير
المؤمنين لا ينبغي هذا ، فقال لما
أتاني الوفود سامعين مطيعين دخلت في
نفسي نخوة فأحببت أن أكسرها ، ومضى
بالقربة إلى حجرة إمرأة من الأنصار
فأفرغها في إنائها . ورؤي أبو هريرة
رضي الله عنه وهو أمير المدينة وعلى
ظهره حزمة حطب وهو يقول طَرِّقوا (اي
إفسحوا الطريق) للأمير. وقال ابن عباس
من التواضع أن يشرب الرجل من سؤر أخيه.
سئل
الفضيل بن عياض عن التواضع فقال أن
تخضع للحق وتنقاد له وتقبله ممن قاله.
وكان يقول قراء الرحمن أصحاب خشوع
وتواضع وقراء الدنيا أصحاب عجب وتكبر.
تشاجر أبو ذر وبلال رضي الله عنهما
فقال أبو ذر لبلال يا إبن السوداء ،
فشكاه إلى رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم ، فقال له: ” أعيَّرتَهُ
بأمهِ إنَّكَ امرؤ فيكَ جاهلية” ،
فألقى أبو ذر نفسه على الأرض وحلف أن
لا يرفع رأسه حتى يطأ بلال خده بقدمه
فلم يرفع رأسه حتى فعل بلال ذلك(31).ـ
ـ 71 ـ ترك مالا يعني
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ” مِن حُسنِ إسلامِ المَرء تَركُهُ ما لا يَعنيهِ ”
(رواه الترمذي وابن ماجه)
إن الله تعالى قد خلق الخلائق مختلفين ، فما يصلح لبعض من أمور حياتهم لا يصلح للبعض الآخر. لذلك على المرء أن يهتم بإمور نفسه ولا يتتبع ما لا يعنيه ، ولا يسأل عن ذلك ، قال تعالى: ” يا أيُّها الّذين آمَنوا لاتَسألوا عَن أشياء إن تَبدَ لَكُم تَسُؤكُم ” (32)، كما أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالإستعانة على قضاء الحوائج الشخصية بالكتمان ، وهذا يبعد الناس عن النظر بعضهم إلى بعض وحسد بعضهم بعضا وتدخل البعض في شؤون بعض بما يؤدي إلى الخلاف والبغضاء والأحقاد. وفي هذا يقول الله تعالى: ” ياأيّها الّذينَ آمَنوا عَليكُم أنفُسَكُم لا يَضُّرُكُم مَن ضلّ إذا اهتديتُم ” (33) ، وهو موضوع عدم التدخل في شؤون الآخرين التي لا تستطيع لها تغييرا وليس في مجال الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي تستطيع تغييره بالحكمة والموعظة الحسنة . ولهذا يجب عدم الإعتراض والعيب على الناس ، فكل إنسان قد يسره الله تعالى لما خُلق له ، ومن أعاب شخصا على خُلق فيه ليس من إرادته إبتلاه الله بمثله ، فإن العقوبة تكون من جنس العمل.
نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن كثرة السؤال ، وقد مقت الله بني إسرائيل وشدد عليهم بكثرة أسئلتهم لأنبيائهم ، ثم بعد ذلك عدم إطاعة أوامرهم . فالمؤمن لا يعترض على أحكام الله تعالى وما ينزل من مصائب ومحن بل يقبلها ، لكنه لا يرضى بالمعاصي والآثام ، فيقاومها ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ، لكنه لا يتدخل فيما لا يعنيه ، وفي شؤون غيره ، فيصرف كل جهده على نفسه فيصلح حالها . فما الذي ينفعه إن نجى الناس كلهم وهلك هو؟ إن على المؤمن أن يهتم بأمر نفسه ، حتى إنه ليعتبرأن دعوته ومساعدته لغيره هي أمر يخص نفسه لأن في ذلك امتثالها لأمر الله تعالى . أما ما وراء النصح والإرشاد والمساعدة من تدخل في أمور الآخرين ، فإن المؤمن يمسك عن ذلك لأنه لا يحب أن يتدخل الآخرون في شؤونه فكذلك هو يحب لهم ما يحب لنفسه.
ـ 72 ـ غض البصر
عن جرير(34) رضي الله عنه قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن نظر الفجأة فقال:
” إصرِف بَصَرَكَ ”
(رواه مسلم)
قال الله تعالى: ” قُل للمُؤمِنينَ يَغُضّوا مِن أبصارِهِم ويَحفَظوا فُروجَهُم ، ذلك أزكى لَهُم إنّ اللّهَ خَبير بِما يَصنَعون . وَقُل لِلمُؤمِنات يَغضُضن مِن أبصارِهِنّ ويَحفَظنَ فُروجَهُنَ ولايبدين زينَتَهُنّ إلاّ ما ظَهَرَ منها ، وليضرِبنَ بِخُمُرِهِنّ على جُيوبهنّ ” ـ(35) ، فالمجتمع الإسلامي مجتمع نظيف ، ليس فيه خيانة لا في العيون ولا في الصدور. وأول حارس لذلك هو غض البصر. ومن غض بصره وهبه الله تعالى إيمانا يجد حلاوته في قلبه. فمن أراد أن يستمتع بمثل هذه الحلاوة فليغض من بصره تنفيذا لأمر الله. ولا عبرة بمن يقول بأنه يملك السيطرة على نفسه فليس بحاجة إلى غض البصر ، فلو كان ذلك صحيحا لأُحِلّ ذلك لخير البشر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
يتبين من الحديث أن النظرة الأولى التي تأتي عن غير قصد معفوٌ عنها . أما النظرة الثانية أو استدامة الأولى فهي محاسب عليها ، وسواء في ذلك الرجال والنساء.
فالنظرة سهم من سهام إبليس ، من تركها وهبه الله تعالى إيمانا يجد حلاوته في قلبه. إن المجتمع الإسلامي يحفظ أعضاءه رجالا ونساء من الإنزلاق في الفواحش ، وما فَرْضُ الحجاب والأمر بغض البصر سوى وسائل وقائية لإبقاء المجتمع نظيفا من أي سوء أو خيانة أو فاحشة ، حفاظا على كيان الأسرة وقيام المجتمع على فضائل الأخلاق والإبتعاد عن سفاسفها.
ـ 73 ـ السخاء
عن أبي أمامة صُدي بن عجلان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
ـ” يا ابن آدم إن تَبذِل الفَضلَ خير لَكَ ، وإن تُمسِكهُ شَرّ لَكَ ، ولا تُلامُ على كَفاف ، وابدأ بِمَن تَعولُ ، واليَدُ العُليا خير مِنَ اليَدِ السُفلى ” ـ
(رواه مسلم)
السخاء من أفضل الصفات . والسخي قريب من الله لإمتثاله لما يحبه الله ، وقريب من الناس لبذله أمواله لهم ، والبخيل قريب من النار لمنعه ما يأمره الله به. فإذا دفع البخل الرجل إلى منع الزكاة المفروضة دخل النار بذلك.
لقي رجل من أهل منبج رجلا من أهل المدينة فقال له ممن الرجل؟ قال من أهل المدينة ، فقال لقد أتانا منكم رجل يقال له الحكم بن المطلب فأغنانا ، فقال المدني فكيف وما أتاكم إلاّ بجبة صوف؟ فقال ما أغنانا بماله ولكنه علّمنا الكرم فعاد بعضنا على بعض حتى استغنينا . ومرض قيس بن سعد بن عبادة(36) ، فاستبطأ إخوانه فسأل عنهم ، فقيل يستحيون مما لك عليهم من دين ، فقال أخزى الله تعالى مالاً يمنع الإخوان من الزيارة ، ثم أمر من ينادي من كان لقيس عليه دين فهو منه في حل ، فكسرت عتبة داره بالعشي لكثرة من عاده. وسألت إمرأة الليث بن سعد سكرجة عسل ، فأمر لها بزق من عسل ، فقيل له في ذلك!! فقال إنها سألت على قدر حاجتها ونحن نعطيها على قدر نعمنا.
يقرر هذا الحديث نفي اللّوم عن المرء الذي يبذل ماله بحيث كلما رزقه الله شيئا بذله فتكون عيشته كفافا ، فإن أفضل الصدقة أن ينفق المرء وهو في عيشة متوسطة يخشى الفقر ويرجو الغنى ، وأول الناس الذين عليه أن يبدأ بهم هم أهل بيته الذين عليه إعالتهم شرعا . أما أخذ الصدقات لمن هو ليس بحاجة إليها فمذموم لأن اليد التي تدفع الصدقة خير من التي تأخذها . وعلى من يدفع أن يشعر بالمنة لمن أخذ منه لأنه لولا وجود ذلك المحتاج وأمثاله لما إستطاع أن ينفذ واجبا فرضه الله عليه ألا وهو الزكاة.
ـ 74 ـ رحمة العباد
عن جرير قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
” إِرحَم مَن في الأرض ، يرحَمكَ مَن في السَماء ” .
(رواه الطبراني والحاكم)
الرحمة من صفات الرحمن الرحيم وهو يريد أن يتصف بها عباده بعضهم نحو بعض. وقد خلق الله بين الناس وشائج تراحم طبيعية كرحمة الأم لولدها ، فمن رحم غيره إستحق رحمة الله تعالى ، وفي رحمة الإنسان لأخيه الإنسان سواء كان على دينه أم لا وفي رحمة الإنسان للحيوان ، في كل ذلك أجر عظيم . وفي زوال التراحم بشير بغضب الله تعالى فقد أخبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن إمرأة دخلت النار في هرة حبستها ، لا هي أطعمتها ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض(37).ـ
إن الرحمة تتجلى في كل شيء: في ملاطفة الوالد لولده ، وفي إحسانه لأهل بيته ، وفي معاملته مع الناس ، وفي معاملته لعدوه قبل صديقه ، وفي معاملته للبهائم ، وفي تعامله حتى مع الجماد ، فالله تعالى أمر بعدم الإسراف في كل شيء ، وأمر بالمشي على الأرض هونا وما هذا وذاك إلاّ دليل على سعة رحمته التي وسعت كلّ شيء(38). حتى أن قتل الكافر أثناء المعركة تتجلى فيه الرحمة فهي تخليص له من اكتساب المزيد من الآثام وتخليص لغيره من شره ، وطريقة القتل يجب أن تظهر فيها الرحمة ، فالقتل بالحرق محرم وتعذيب ابن آدم حرام أيّا كان ، ” فَبِما رَحمَة مِنَ اللّهِ لِنتَ لَهُم ولو كُنتَ فَظّا غليظَ القَلبِ لانفَضّوا مِن حولِك ، فاعفُ عَنهُم واستَغفِر لَهُم ” (39) ، وبتراحم المؤمنين فيما بينهم تتوثق الوشائج بينهم ، فيحب بعضهم بعضا وتجتمع كلمتهم.
إن المؤمن رحيم لغيره من الناس وحتى للحيوانات أيضا . ففي تلك الرحمة أجر كبير. وقد قص علينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قصة رجل يمشي بطريق فاشتد عليه العطش ، فوجد بئرا فنزل فشرب ثم خرج فإذا كلب يلهث يأكل الثرى من العطش فقال الرجل لقد بلغ هذا الكلب من العطش مثل الذي كان بلغ بي ، فنزل البئر فملأ خفِّه ثم أمسكه بفيه فسقى الكلب فشكر الله له فغفر له ، قالوا يارسول الله وإن لنا في البهائم أجرا ، فقال: "نعم ، في كل ذات كبِد رطبة أجر"(40) ، وحين رأى عمر بن الخطاب عجوزا يهوديا يسأل الناس ، رحم له كبر سنه قائلا: ما أنصفناك ، أخذنا الجزية منك في شبابك وتركناك في كبرك ، ثم فرض له ما يكفيه من بيت المال.
ـ 75 ـ ترك الجدل
عن أبي أمامة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال:
” ما ضَّلّ قوم بَعدَ هُدًى كانوا عَليهِ إلاّ أوتوا الجَدالَ ”
(رواه الترمذي وأحمد وإبن ماجه والحاكم)
قال الله تعالى: ” وَمِنَ النّاسِ مَن يُعجِبُكَ قولُهُ في الحياةِ الدُنيا ويُشهِدُ اللّهَ عَلى ما في قَلبِهِ وهُوَ ألَدّ الخِصامِ ” (41) ، فالجدال يتضمن عادة حب ظهور المجادل على خصمه ، وتشفِّيه بخذلانه أو حسده إن حدث العكس ، وبغضه أو عدم قبول الحق الذي قاله عنادا وتكبرا . وقد يلجأ المخاصم إلى الكذب أوإخفاء الحق والسب والشتم وتعيير الخصم أو غيبته وكرهه بغير حق. وهكذا فالجدل مثير لكل هذه الآفات النفسية التي لا تليق بالمؤمن . وهناك بعض الناس من جُبِل على حب الجدل ، وهذه غريزة مذمومة وعليه مقاومة دوافعها ومعالجتها بكبح جماح النفس ومنعها من الإستمرار بالجدل حتى ولو كان على يقين بأنه على الحق وخصمه على الباطل فقد ورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ” أنا زعيمٌ ببيت في رَبَض الجَنَّة لِمَن تَرَكَ المِراءَ وإن كانَ مُحِقّا ، وببيت في وسَطِ الجَنّةِ لِمَن تَرَكَ الكَذِبَ وإن كانَ مازِحا ” (42). والملاحظ أن دوافع الجدال والأخذ والرد تزداد إذا حضر الجدال أو سمعه شخص أو أشخاص آخرون لأنه عند ذلك يكون العجب بالنفس وحب الظهور على أشده. وهكذا يتصيد الشيطان فرائسه في ساعات الغفلة فيغويهم ويقودهم إلى الإختلاف والشقاق بعد أن كانوا على هدى وإجتماع. ” ولا تَكونوا كالّذينَ تَفَرَّقوا واختَلَفوا مِن بَعدِ ما جاءَهُم البيِّنات وأولئِكَ لَهُم عَذاب عَظيم ” (43).ـ
أما المناقشة الهادئة في سبيل نشر الحق والوصول إليه فقد قال الله تعالى فيها: ” وجادِلهُم بالّتي هيَ أحسَن ” (44) ، وعند ذلك تكون تلك المجادلة مطلوبة لأنها وسيلة من وسائل الدعوة شرط خلوها عن نوازع النفس الشريرة وإخلاص النية فيها لله تعالى . والدعوة ليست جدلا محضا بل هي فعل وإمتثال لأوامر الله تعالى وتطبيق ذلك على النفس أولا ، ثم إيضاح ذلك للناس بالجدال بالتي هي أحسن ، والناس يقتنعون بالفعل والقدوة الحسنة ما لا يقتنعون بحسن الكلام وقوة الحجة.
ـ1ـ أبو حامد أحمد بن خضرويه البلخي من كبار مشايخ خراسان ، صحب أبا تراب النخشبي ، توفي سنة .24هـ وقد بلغ 95 سنة ، وكان عليه دين عند وفاته وقد حضر غرماؤه ، فنظر إليهم وقال اللهم إنك جعلت الرهون وثيقة لأرباب الأموال وأنت تأخذ عنهم وثيقتهم ، فأدّ عني ، فطرق الباب طارق وقال أين غرماء أحمد ، فأدّى عنه ، ثم توفي رحمه الله.
ـ2ـ سورة التوبة الآية 119.
ـ3ـ الحديث سبق ذكره برقم ـ56ـ في الباب الرابع.
ـ4ـ السيرة النبوية ، لأبن هشام.
ـ5ـ محمد بن عثمان الرضواني ولد بالموصل عام 1269هـ وأخذ العلم عن علمائها ، إشتهر بالعلم الغزير والتقوى والصلاح ، وتخرج على يده أكابر علماء الموصل ، توفي رحمه الله عام 1357هـ.
ـ6ـ أخرجه أبو نعيم والطبراني عن عائشة ، وفي رواية أخرى أخرجها أحمد. والترمذي والحاكم والبيهقي عن ابن مسعود ، ورد فيها: وليذكر الموت والبلى.
ـ7ـ سورة المؤمنون الآية 60.
ـ8ـ راجع الهامشين 74 و 75 من الباب الأول.
ـ9ـ سورة ق الآية 18.
ـ10ـ متفق عليه من حديث أبي هريرة.
ـ11ـ رواه الترمذي والنسائي وابن ماجه وأحمد وابن حبان والحاكم عن بلال بن الحرث.
ـ12ـ سورة القلم الآية 4.
ـ13ـ متفق عليه عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.
ـ14ـ متفق عليه عن أنس رضي الله عنه.
ـ15ـ أخرجه مسلم من حديث علي رضي الله عنه.
ـ16ـ سورة آل عمران الآية 134.
ـ17ـ سورة الشورى الآية 37.
ـ18ـ رواه أبو داود من حديث عطية السعدي.
ـ19ـ سورة الأعراف الآية 199.
ـ20ـ سورة البقرة الآية 237.
ـ21ـ سورة الشورى الآية 40.
ـ22ـ متفق عليه من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.
ـ23ـ سورة النور الآية 22.
ـ24ـ متفق عليه عن عائشة رضي الله عنها.
ـ25ـ رواه مسلم عن أنس بن مالك رضي الله عنه.
ـ26ـ سورة الفرقان الآية 63.
ـ27ـ هو قتادة بن دعامة السدوسي كان أكمه ضريرا ، وكان عالما بالحديث والعربية والأنساب والتأريخ والتفسير ، قال عنه الإمام أحمد أحفظ أهل البصرة ، مات بواسط بالطاعون عام 118هـ عن 57 سنة.
ـ28ـ محمد بن مقاتل الرازي من تابعي التابعين كان يحدث عن وكيع.
ـ29ـ سورة الأعراف الآية 146.
ـ30ـ أبو جهل عمرو بن هشام زعيم الكفار وفرعون هذه الأمة ، كان أشد الناس عداوة لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، قتل في معركة بدر.
ـ31ـ متفق عليه.
ـ32ـ سورة المائدة الآية 101.
ـ33ـ سورة المائدة الآية 105.
ـ34ـ جرير بن عبد الله بن مالك . إختُلف في وقت إسلامه ، كان قائد بجيلة في فتح العراق ، وكان له أثر عظيم في معركة القادسية ، كان يقول ما حجبني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم منذ أسلمت ولا رآني إلاّ تبسم . كان صبيح الوجه لذا كان عمر يكنيه يوسف هذه الأمة ، توفي عام 51هـ.
ـ35ـ سورة النور الآيتان30 و 31.
ـ36ـ قيس بن سعد بن عبادة ، كان أبوه وجده سادة الخزرج. شهد المشاهد كلها مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وكان معه بمنزلة صاحب الشرطة من الأمير كما روى ذلك الإمام البخاري عن أنس بن مالك . قلده الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لواء الأنصار بعد أن أخذه من أبيه في فتح مكة بعد أن كاد أبوه أن يحدث مشكلة كبيرة بإنشاده: اليوم يوم الملحمة اليوم تستحل الحرمة . عُيّن قيس واليا على مصر من قبل علي بن أبي طالب . توفي في آخر خلافة معاوية في المدينة.
ـ37ـ حديث: "دخلت إمرأة النار في هرة ربطتها فلم تطعمها ولم تدعها تأكل من خشاش الأرض حتى ماتت" رواه البخاري عن إبن عمر وأحمد والبيهقي وابن ماجه عن أبي هريرة.
ـ38ـ قال تعالى في سورة الأعراف الآية 156: ” وَرَحمَتي وَسِعَت كُلّ شيء ” .
ـ39ـ سورة آل عمران الآية 159.
ـ40ـ رواه الشيخان.
ـ41ـ سورة البقرة الآية 204.
ـ42ـ رواه الترمذي وإبن ماجه عن أنس رضي الله عنه.
ـ43ـ سورة آل عمران الآية 105.
ـ44ـ سورة النحل الآية 125.